سورة التحريم - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التحريم)


        


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}
{ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} روى البخاري. وابن سعد. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن مردويه عن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلًا فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش ولن أعود» وفي رواية «وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدًا» فنزلت {عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ} الخ، وفي رواية «قالت سودة: أكلت مغافير؟ قال: لا قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، فقالت: جرست نحلة العرفط» فحرم العسل فنزلت، وفي حديث رواه البخاري. ومسلم. وأبو داود. والنسائي عن عائشة شرب العسل في بيت حفصة، والقائلة سودة. وصفية.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه قال الحافظ السيوطي: بسند صحيح عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحًا فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحًا فقال: أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه» فنزلت، وأخرج النسائي. والحاكم وصححه. وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة. وحفصة حتى جعلها على نفسه حرامًا فأنزل الله تعالى هذه الآية: {عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ} الخ، ويوافقه ما أخرجه البزار. والطبراني بسند حسن صحيح عن ابن عباس قال: نزلت {عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ} الآية في سريته.
والمشهور أنها مارية وأنه عليه الصلاة والسلام وطئها في بيت حفصة في يومها فوجدت وعاتبته فقال صلى الله عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى فحرمها، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم عائشة، وفي الكشاف روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت عائشة وكانتا متصادقتين.
وبالجملة الأخبار متعارضة، وقد سمعت ما قيل فيها لكن قال الخفاجي: قال النووي في «شرح مسلم»: الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نقلًا عنه أيضًا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، وقال الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف ما وجدته في الكتب المشهورة والله تعالى أعلم.
والمغافير: بفتح الميم والغين المعجمة وبياء بعد الفاء على ما صوبه القاضي عياض جمع مغفور بضم الميم شيء له رائحة كريهة ينضحه العرفط وهو شجر أو نبات له ورق عريض، وعن المطلع أن العرفط هو الصمغ، والمغفور شوك له نور يأكل منه النحل يظهر العرفط عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب جدًا ويكره الرائحة الكريهة للطافة نفسه الشريفة ولأن الملك يأتيه وهو يكرهها فشق عليه صلى الله عليه وسلم ما قيل فجرى ما جرى، وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بيا أيها النبي في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] والمراد بالتحريم الامتناع. وا أحل الله العسل على ما صححه النووي رحمه الله تعالى، أو وطء سريته على ما في بعض الروايات، ووجه التعبير بما على هذين التفسيرين ظاهر.
وفسر بعضهم {مَا} ارية؛ والتعبير عنها بما على ما هو الشائع في التعبير بها عن ملك اليمين، والنكتة فيه لا تخفى، وقوله تعالى: {تَبْتَغِى مرضات أزواجك} حال من فاعل {تُحَرّمُ}، واختاره أبو حيان فيكون هو محل العتاب على ما قيل، وكأن وجهه أن الكلام الذي فيه قيد المقصود فيه القيد إثباتًا أو نفيًا، أو يكون التقييد على نحو {أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] على أن التحريم في نفسه محل عتب؛ والباعث عليه كذلك كما في الكشف، أو استئناف نحوي أو بياني، وهو الأولى، ووجهه أن الاستفهام ليس على الحقيقة بل هو معاتبة على أن التحريم لم يكن عن باعث مرضي فاتجه أن يسأل ما ينكر منه وقد فعله غيري من الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] فقيل: {تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك} ومثلك من أجل أن تطلب مرضاتهن ثل ذلك، وجوز أن يكون تفسيرًا لتحرم بجعل ابتغاء مرضاتهن عين التحريم مبالغة في كونه سببًا له، وفيه من تفخيم الأمر ما فيه، والإضافة في {أزواجك} للجنس لا للاستغراق.
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلى الله عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به، وقد زل الزمخشري هاهنا كعادته فزعم أن ما وقع من تحريم الحلال المحظور لكنه غفر له عليه الصلاة والسلام، وقد شن ابن المنير في الانتصاف الغارة في التشنيع عليه فقال ما حاصله: إن ما أطلقه في حقه صلى الله عليه وسلم تقول وافتراء والنبي عليه الصلاة والسلام منه براء، وذلك أن تحريم الحلال على وجهين: الأول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلًا، والثاني: الامتناع من الحلال مطلقًا أو مؤكدًا باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف وحلال محض، ولو كان ترك المباح والامتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال، وما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان من هذا النوع وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقًا به وتنويهًا بقدره وإجلالًا لمنصبه عليه الصلاة والسلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريًا على ما ألف من لطف الله تعالى به، وتأول بعضهم كلام الزمخشري، وفيه ما ينبو عن ذلك. وقيل: نسبة التحريم إليه صلى الله عليه وسلم مجاز، والمراد لم تكون سببًا لتحريم الله تعالى عليك ما أحل لك بحلفك على تركه وهذا لا يحتاج إليه، وفي وقوع الحلف خلاف، ومن قال به احتج ببعض الأخبار، وبظاهر قوله تعالى:


{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}
{قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة، فالتحلة مصدر حلل كتكرمة من كرم، وليس مصدر مقيسًا، والمقيس التحليل والتكريم لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل، وأصله تحللة فأدغم، وهو من الحل ضد العقد فكأنه باليمين على الشيء لالتزامه عقد عليه وبالكفارة يحل ذلك، ويحل أيضًا بتصديق اليمين كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم» يعني {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] الخ، وتحليله بأقل ما يقع عليه الاسم كمن حلف أن ينزل يكفي فيه إلمام خفيف، فالكلام كناية عن التقليل أي قدر الاجتياز اليسير، وكذا يحل بالاستثناء أي بقول الحالف: إن شاء الله تعالى بشرطه المعروف في الفقه.
ويفهم من كلام الكشاف أن التحليل يكون عنى الاستثناء ومعناه كما في الكشف تعقيب اليمين عند الإطلاق بالاستثناء حتى لا تنعقد، ومنه حلًا أبيت اللعن، وعلى القول بأنه كان منه عليه الصلاة والسلام يمين كما جاء في بعض الروايات وهو ظاهر الآية اختلف هل أعطى صلى الله عليه وسلم الكفارة أم لا؟ فعن الحسن أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط لأنه كان مغفورًا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين، وفيه أن غفران الذنب لا يصلح دليلًا لأن ترتب الأحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة والسلام ليس من المؤاخذة على الذنب لا يصلح دليلًا لأن ترتب الأحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة والسلام ليس من المؤاخذة على الذنب كيف وغير مسلم أنه ذنب، وعن مقاتل أنه صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية، وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أسلم أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الكفارة في تحريمه أم ولده حيث حلف أن لا يقربها، ومثله عن الشعبي، واختلف العلماء في حكم قول الرجل لزوجته: أنت علي حرام. أو الحلال علي حرام ولم يستثن زوجته فقيل: قال جماعة منهم مسروق. وربيعة. وأبو سلمة. والشعبي. وأصبغ: هو كتحريم الماء والطعام لا يلزمه شيء، وقال أبو بكر. وعمر. وزيد. وابن مسعود. وابن عباس. وعائشة. وابن المسيب. وعطاء. وطاوس. وسليمان بن يسار. وابن جبير. وقتادة. والحسن. والأوزاعي. وأبو ثور. وجماعة: هو يمين يكفرها، وابن عباس أيضًا في رواية، والشافعي في قول في أحد قوليه: فيه تكفير يمين وليس بيمين، وأبو حنيفة يرى تحريم الحلال يمينًا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعامًا فقد حلف على عدم أكله. أو أمة فعلى وطئها.
أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم تكن له نية فإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وكذلك إن نوى اثنتين وإن نوى ثلاثًا فكما نوى، وإن قال: نويت الكذب دين بينه وبين الله تعالى، ولكن لا يدين في قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف، وقال جماعة: إن لم يرد شيئًا فهو يمين، وفي التحرير قال أبو حنيفة. وأصحابه: إن نوى الطلاق فواحدة بائنة. أو اثنتين فواحدة. أو ثلاثًا فثلاث. أو لم ينو شيئًا فمول. أو الظهار فظهار، وقال ابن القاسم: لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقًا، وقال يحيى بن عمر: يكون كذلك فإن ارتجعها فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار، ويقع ما أراد من إعداده فإن نوى واحدة فرجعية وهو قول للشافعي، وقال الأوزاعي. وسفيان. وأبو ثور: أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئًا فقال سفيان: لا شيء عليه، وقال الأوزاعي. وأبو ثور: تقع واحدة، وقال ابن جبير: عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهارًا، وقال أبو قلابة. وعثمان. وأحمد. وإسحاق: التحريم ظهار ففيه كفارته، وعن الشافعي إن نوى أنها محرمة كظهر أمه فظهار، أو تحريم عينها بغير طلاق، أو لم ينو فكفارة يمين، وقال مالك: يقع ثلاث في المدخول بها وما أراد من واحدة. أو ثنتين. أو ثلاث في غير المدخول بها، وقال ابن أبي ليلى. وعبد الملك بن الماجشون: تقع ثلاث في الوجهين، وروى ابن خويزمنداد عن مالك، وقاله زيد. وحماد بن أبي سليمان: تقع واحدة بائنة فيهما، وقال الزهري. وعبد العزيز بن الماجشون: واحدة رجعية، وقال أبو مصعب. ومحمد بن عبد الحكم: يقع في التي لم يدخل بها واحدة وفي المدخول بها ثلاث، وفي الكشاف لا يراه الشافعي يمينًا ولكن سببًا في الكفارة في النساء وحدهن، وأما الطلاق فرجعي عنده، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة، وعن عثمان ظهار، وأخرج البخاري. ومسلم. وابن ماجه. والنسائي عن ابن عباس أنه قال: من حرم امرأته فليس بشيء.
وقرأ {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وللنسائي أنه أتاه رجل فقال: جعلت امرأتي علي حرامًا قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية {عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة إلى غير ذلك من الأقوال، وهي في هذه المسألة كثيرة جدًا، وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضًا، واحتج بما في هذه الآية من فرض تحليلها بالكفارة إن لم يستثن من رأي التحريم مطلقًا، أو تحريم المرأة، يمينًا لأنه لو لم يكن يمينًا لم يوجب الله تعالى فيه كفارة اليمين هنا.
وأجيب بأنه لا يلزم من وجوب الكفارة كونه يمينًا لجواز اشتراك الأمرين المتغايرين في حكم واحد فيجوز أن تثبت الكفارة فيه لمعنى آخر، ولو سلم أن هذه الكفارة لا تكون إلا مع اليمين فيجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أقسم مع التحريم فقال في مارية:
«والله لا أطؤها» أو في العسل «والله لا أشربه» وقد رواه بعضهم فالكفارة لذلك اليمين لا للتحريم وحده، والله تعالى أعلم.
{والله مولاكم} سيدكم ومتولي أموركم {وَهُوَ العليم} فيعلم ما يصلحكم فيشرعه سبحانه لكم {الحكيم} المتقن أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسا تقتضيه الحكمة.


{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)}

{وَإِذَ أَسَرَّ} أي واذكر {إِذْ أَسَرَّ} {النبى إلى بَعْضِ أزواجه} هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين، وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة، نعم رواه ابن مردويه عن ابن عباس وهو شاذ {حَدِيثًا} هو قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: «لكني كنت أشرب عسلًا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا» {فَلَمَّا نَبَّأَتْ} أي أخبرت.
وقرأ طلحة أنبأت {بِهِ} أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين، وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث إنه عليه الصلاة والسلام كما في البخاري. وغيره كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة كما يشعر به لفظ كان فاستخفها السرور فنبأت بذلك {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} أي جعل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرًا على الحديث مطلعًا عليه من قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] والكلام على ما قيل: على التجوز، أو تقدير مضاف أي على إفشائه، وجوز كون الضمير لمصدر {نَبَاتُ} وفيه تفكيك الضمائر، أو جعل الله تعالى الحديث ظاهرًا على النبي صلى الله عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت على إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل {عَرَّفَ} أي النبي صلى الله عليه وسلم حفصة {بَعْضَهُ} أي الحديث أي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته.
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل: هو قوله لها: «كنت شربت عسلًا عند زينب ابنة جحش فلن أعود» {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} هو على ما قيل قوله عليه الصلاة والسلام: «وقد حلفت» فلم يخبرها به تكرمًا لما فيه من مزيد خجلتها حيث إنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله عليه وسلم رضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك، وهذا من مزيد كرمه صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي
وجوز أن يكون {عَرَّفَ} عنى جازى أي جازاها على بعض بالعتب واللوم أو بتطليقه عليه الصلاة والسلام إياها، وتجاوز عن بعض، وأيد بقراءة السلمى. والحسن. وقتادة. وطلحة. والكسائي. وأبي عمرو في رواية هارون عنه {عَرَّفَ} بالتخفيف لأنه على هذه القراءة لا يحتمل معنى العلم لأن العلم تعلق به كله بدليل قوله تعالى: {حَرَّمَ الله عَلَيهِ} مع أن الإعراض عن الباقي يدل على العلم فتعين أن يكون عنى المجازاة.
قال الأزهري في التهذيب: من قرأ {عَرَّفَ} بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسىء إليك: والله لأعرفن لك ذلك، واستحسنه الفراء، وقول القاموس: هو عنى الإقرار لا وجه له ههنا، وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس، ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم، وأيد المعنى الأول بقوله تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ} لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا؟ {مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم الخبير} الذي لا تخفى عليه خافية فإنه أوفق للإعلام، وهذا على ما في البحر على معنى بهذا، وقرأ ابن المسيب. وعكرمة عراف بعضه بألف بعد الراء وهي إشباع، وقال ابن خالويه. ويقال: إنها لغة يمانية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأن أبا بكر. وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر. وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو، وقيل: بالعكس، وقد جاء أسرار أمر الخلافة في عدة أخبار؛ فقد أخرج ابن عدي. وأبو نعيم في فضائل الصديق، وابن مردويه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس قالا: إن أمارة أبي بكر. وعمر لفي كتاب الله {وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثًا} قال لحفصة: «أبوك. وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدًا».
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن الضحاك أنه قال: في الآية أسر صلى الله عليه وسلم إلى حفصة أن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبي بكر عمر، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه، وفي مجمع البيان للطبرسي من أجل الشيعة عن الزجاج قال: لما حرم عليه الصلاة والسلام مارية القبطية أخبر أنه يملك من بعده أبو بكر. وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر. وعمر يملكان من بعدي، وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبهما في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك، وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر انتهى.
وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى، ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل لكن حديثه أصح، والجمع بين الأخبار مما لا يكاد يتأتى.
وقصارى ما يمكن أن يقال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد شرب عسلًا عند زينب كما هو عادته، وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل، واتفق له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أو بعيده أن وطىء جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله عليه وسلم مارية، وقال لحفصة ما قال تطييبًا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما. والبعض الآخر على نقل الأخرى، وقال كل: فأنزل الله تعالى: {مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى} [التحريم: 1] الخ، وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الاختلاف وإلا فاطلب لك غيره، والله تعالى أعلم.
واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها على ما قيل: دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب، وقد روي أن عبد الله بن رواحة وكان من النقباء كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة، فقال قولًا بالتعريض، فقالت: إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن فأنشد:
شهدت فلم أكذب بأن محمدا *** رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما *** له عمل في دينه متقبل
وأن التي بالجزع من بطن نخلة *** ومن دانها كل عن الخير معزل
فقالت: زدني، فأنشد:
وفينا رسول الله يتلو كتابه *** كما لاح معروف من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا *** به موقنات إن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا رقدت بالكافرين المضاجع
فقالت: زدني، فأنشد:
شهدت بأن وعد الله حق *** وأن النار مثوى الكافرينا
وأن محمدًا يدعو بحق *** وأن الله مولى المؤمنينا
وأن العرش فوق الماء طاف *** وفوق العرش رب العالمينا
ويحمله ملائكة شداد *** ملائكة الإله مسومينا
فقالت: أما إذ قرأت القرآن فقد صدقتك، وفي رواية أنها قالت وقد كانت رأته على ما تكره إذن صدق الله وكذب بصري، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم، وقال: «خيركم خيركم لنسائه».

1 | 2 | 3 | 4